-->

قصص طويلة للاطفال

قصص طويلة للاطفال

قصص طويلة للاطفال هي قصص تستهدف الأطفال لتساعدهم على تنمية أفكارهم و مخيلتهم لأنها قصص طويلة فيها الكثير من الأحداث المشوقة تجعل الأطفال يتتبعون أحداثها بالتفصيل مما يساعدهم على فهم القصص و بالتالي فهم المقررات الدراسية وتعلم التعبير التحليل بشكل سليم.

قصص للاطفال طويلة

قصة في جزيرة الأنوار

يحكى أنه في زمان ما و تَحْتَ سَمَاء زَرْقَاء ، وَفِي مَنْزِلِ قديم ، مِنْ مَنَازِلِ جَزِيرَة صغِيرَةٍ تُسَمَّى جَزِيرَةُ المَرْجَانِ ، جَاءَ إِلَى هَذَا الْعَالَمِ طِفْل صَغِير ، جَمِيلُ الْوَجْه ، حُلْو الْقَسَمَاتِ ، غَزِيرُ الشَّعْر .
وَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ مَوْلِدَهُ سَيِّدة عجوز تتعاطى السحر .

وَتَتَنَبَأُ بِالْمُسْتَقْبَلِ فَقَالَت : ( سَتَكُونُ لِهَذَا الصَّبِيِّ حَيَاةٌ كُلُّهَا فَوْرٌ وَنَجَاحِ ، وَسَوْفَ يَنتَقِلُ مِنْ نَصر إلى نصر، فَإِذَا بَلَغَ مِنَ الْعِشْرِينَ ، فَسَوْفَ يتزَوَّجُ ابْنَةَ مَلِكِ هَذِهِ الْجُزرِ » .
فَرِح أَهْلُ الصَّبِيِّ بِنُبُوءَةِ السَّيِّدَةِ الْعَجُوز ، فَاحْتَفَلُوا بميلاد الطفل احتفالاً كَبِيرًا ، وَبَيْنَمَا كَانَ جَمِيعُ الْحُضُورِ مُسْتَسْلِمِينَ إِلَى الْمَبَاهِجِ وَالْأَفْرَاحِ ، حَلَّقَ فِي فَضَاءِ الْجَزِيرَة، عُصْفُورٌ مُلَوَّنُ الرِّيش ، وَوَقَفَ يَسْمَعُ أَحَادِيثَ السُّكَان ، ثُمَّ طَارَ إِلَى الْمَلِكِ يُخْبِرُهُ بِنُبُوءةِ السَّاحِرَةِ الْعَجُوز . سَمِعَ الْمَلِكُ هَذَا الْخَبَر ، فَتَمَلَّكَهُ الْغَضَب ، وَأَرَادَ أَن يَقِفَ هُوَ نَفْسُهُ عَلَى جَلِيَّةِ الأَمْرِ ، فَرَكِبَ زَوْرَقًا صَغِيرًا . ونشر الشراع ، وَسَارَ في اتِّجَاهِ جَزِيرَةِ الْمَرْجَانِ ، وَقَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ بَعْضَ شَوَاطِئِهَا ، رَمَى بِنَفْسِهِ فِي الْبَحْرِ مُتَصَنِعَا الْغرق وسَبَحَ حَتَّى حَطَ عَلَى الشاطئ .

هرع سكان الجزيرة الصَّغِيرَةِ إِلَى إِنْقَاذِ الْغرِيق ،فَحدّتْ عَنْ دَهْشَتِهِمْ وَلَا عَجَب ، حِينَمَا عَرَفُوا أَنَّ الْغرِيق ، إِنَّمَا هُوَ الْمَلِكَ ، وَقَدْ نَزَلَ جَزِيرَتَهُمْ . فَمَضَى كُلَّ مِنْهُمْ يُسَابِقُ سِواه، فِي الْحُصُولِ عَلَى شَرَفِ إِيواء الْمَلِكَ ، فَكَانَ ذلك الشرف ، مِنْ نَصِيبِ أَهْلِ الْمَوْلُودِ الْجَدِيد . تَظَاهَرَ الْمَلِكُ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ الطَّفْلِ ، بِأَنَّهُ مَدْهُوش مِنْ جَمَالِهِ ، فَطَلَبَ أَنْ يَنَامَ عَلَى مَقْرُبَةٍ مِنْ مَهْدِهِ ، فَأَكْبَرَ وَالِدَاهُ هذه النِّعْمَةَ العظمى ، وانْسحَبا مِنَ الْغُرْفَةَ ، بَعْدَ أَنْ أَعَدا لِلْمَلِك ، مَكَانًا يَضطَجِعُ فيه . فَمَا هُوَ أَنْ يَنْفَرِدَ الْمَلِكُ بالطفل ، حَتَّى يَضَعَهُ فِي سَلَّةٍ مِنْ سلالِ الْخُبْرُ ، وَيَخْرُجَ بِهِ سِرًّا مِنَ الْمَنْزِلِ الصَّغِيرِ ، وَيَجِد في السَّيْرِ إِلَى الشَّاطِيِّ ، وَهُنَا نَزَلَ الْمَلِكُ يَخُوضُ عُبَابَ الماء . فَلَمَّا وَصَلَ الْمَاءُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ ، أَلْقَى بِالسَّنَّةِ فَوْقَ سَطْحِ الْبَحْرِ. فَأَخَذَتْ تَتَرَاقَصُ عَلَى حَرَكَاتِ الْمَوْج ، ثُمَّ عادَ إِلَى الْمَنْزِل .

وَدَفَنَ كِيسَ نقُودِهِ فِي زاوية بَعِيدَةٍ مِنْ زوايا الحديقة . ودَخَلَ الْغُرْفَة ، واسْتَلْقَى إِلَى فِرَاشِهِ ، وَنَامَ نَوْمًا عَمِيقا وَعِنْدَ الصَّبَاحِ ، خَرَجَ الْمَلِكُ يَسْتَنْشِقُ النَّسِيمَ الْعَلِيلِ ، فَدَخَلَتْ أُمُّ الطِفْلِ الْغُرْفَةَ ، تُرِيدُ أَنْ تُغَيرَ لَهُ مَلَابِسهِ ، فَاسْتَحْوَذَ عَلَيْهَا قَلَق لَا يُوصَف، عِنْدَمَا رَأَتِ الْمَهْدَ خَالِيًا ، فَدَارَتْ فِي الْغرْفَةِ دورات كثيرة ، ثُمَّ تَقَصَّتِ الْمَنْزِلَ كُله ، باحثةً عَنِ الطفل . فَلَمْ تَجِدْ لَهُ أَثَرًا ، وَانْتَهَى بِهَا الْأَمْرُ إِلَى أَنْ تُطلِعَ الْمَلِكَ على اختفاء الطفل، وَهِيَ تَعولُ وَتَبكي. وَأَبْدَى الْمَلِكُ أَنَّهُ أَسِيفٌ حَزِينٌ لِهَذَا الْخَبرِ، وَأَظْهَرَ أَنَّهُ يبحث عَنْ كيس نقودِهِ ، فَلَمَّا لَمْ يَجِدْهُ صَاحَ قائلا : لَقَدْ كُنَّا ياسيدتى، ولا شك، فَرِيسَةً لِصِ مَاهِر ، اسْتَوْلَى على طفلك ، كما استولى على كيس نُقُودِي ، فَيَجِبُ عَلَيْك وَعَلَى زَوْجِكَ ، أَنْ تُطِيلا الْبَحْث عَنْ هَذَا اللَّص ، أَمَّا أَنَا فَسَأَعُودُ إِلَى قَصْرِى ، وَسَأَخصص جَائِزَةً ضخمة، لمَنْ يُلْقِي الْقَبْضَ عَلَى اللص اللعين.

وَشَكَرَ الْمَلِكُ والدي الطفل ، على كرم ضيافتهما ، وَوَدَّعَ أَهْلَ الْجَزِيرَةِ كلهم، وقفز إلَى زَوْرَقٍ مِنْ زَوَارِقِ الصَّيادِين . وَرَجَعَ بِهِ إلى قصره .
وَمَضَتْ عِدَّةُ سَنَوَاتٍ عَلَى هَذَا الْحَادِثِ ، دُونَ أَنْ يُعْثرَ عَلَى اللص ولا عَلَى الطفل المسروق .
وَكَانَ الطفْلُ بَعْدَ أَنْ تَقاذفتْهُ الأمْواجُ طويلاً ، قَدْ وَقَعَ فِي شَبَكَةِ صَيَّادٍ مِنْ صَيَادِي اللُّؤْلُؤِ، فَأَخْرَجَهُ مِنَ الشَّبَكَة ، ثُمَّ مِنَ السَّلَّةَ ، وَعَجِبَ الصَّيَّادُ مِنْ جَمَالِ الطفْل ، وَشَعْرِه الذهبي الغزير.

ولم يكن لهذا الصياد ولد، فكم تمنى هو و زوجته أن يَرْزُقَهُمَا اللَّهُ بِوَلَدٍ يَكُونُ لِخَاطِرِهِمْ بَهْجَةً وَمَسَرَّة ، فَحَمَلَ الطفل إِلَى كُوخهِ ، وَهُوَ فَرحٌ مُغتَبَط ، وَاسْتَقْبَلَتْه الزَّوْجَةُ بِالْبِشْرِ وَالتَّرْحَابِ .

عاش الطفْلُ فِي هَذِهِ الْأَسْرَةِ الكريمة ، تِسْعَةَ عَشَرَ عَامًا ، وَعِنْدَمَا هَمَّ أَنْ يَنْتَقِلَ إِلَى عَامِهِ الْعِشْرِينَ ، هَبَّتْ عَلَى الْبَحْرِ عَاصِفَةٌ هَوْجَاءَ ، وَكَانَ الْمَلِكُ عَلَى عَادَتِهِ ، يَتَقَصَّى شُؤُونَ جَزَائِرِه ، مُتَنَقِلاً مِنْ وَاحِدَةٍ إِلَى أُخْرَى ، بِزَوْرَقٍ صَغِير ، فَلَمْ يَقْوَ قَارِبُهُ عَلَى مُقَاوَمَةِ الْأَمْواجِ الْهَادِرَة . فاضطر إلَى أَنْ يَنزِلَ بِأَقْرَبِ جَزِيرَةٍ لَاحَتْ لَهُ . فَلَمَّا حط قَدَمَهُ فَوْقَ أَرْضِها ، وَجَالَ فِيهَا قَلِيلاً ، وَجَدَهَا جَزِيرَةً قَفْرَاء . قَدْ خَلَتْ إِلَّا مِنْ بَعْضِ الْأَكوَاخ ، فَطَرَقَ باب كوخ صغيرٍ كَانَتْ فِيهِ امْرَأَةٌ تُعنى بِشُؤُونِ كُوخِهَا . وكَانَ فِيهِ شَابٌ قَدْ جَلَسَ فِي زَاوِيَةٍ مِنْ زَوَايَاهُ ، يُصْلِحُ شباك الصيد ، فَفَتَحَتِ الْمَرْأَةُ الْبَابِ ، وَسَأَلَهَا الْمَلِكُ أَنْ يَقْضِي لَيْلَتَهُ ضَيْفَا عَلَيْهِمَا . وَبَعْدَ قَلِيلٌ ، أَقْبَلَ الصَّيَّادُ وَدَخَلَ كُوخه ، وَلَشَدَّ مَا اغْتَبَطَ وَدَهِش ، عِنْدَمَا عَرَفَ أَنَّ مَلِكَ جَمِيعِ الْجُزرِ  جَالِسٌ تحت سقف بيته .

طَرَحَ الْمَلِكُ كَثِيرًا مِنَ الْأَسْئِلَةِ عَلَى الصَّيَّادِ وَزَوْجَتِهِ . وَكَانَتْ عَيْنَاهُ فِي أَثْنَاء طَرْح هَذِهِ الْأَسْئِلَةَ ، لَا تُفَارِقانِ الشَّعْرَ الذهَبيَّ الَّذِي يَزِينُ رَأْسَ الْفَتَى الْجَالِسِ فِي زاوِيَةِ الْغُرْفَةَ . فَكَانَ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ ، أَنَّ لَمَعَانَ ذَلِكَ الشَّعْرِ الْجَمِيلِ ، غَيْرُ غَرِيبٍ عَنْهُ ، وَعَبَثًا بَعَثَ فِي ذَاكِرَتِهِ ، فَلَمْ يَعْرِفْ أَيْنَ وَمَتَى رَأَى ذلك اللمعان .

وَكَانَ مِنْ أَجْوِبَةِ الْأَسْئِلَةِ الَّتِي عَادَ الْمَلِكُ فَطَرَحَها عَلَى الصَّيَّادِ وَزَوْجَتِهِ ، أَنَّهُ عَلِمَ أَنْ لا وَلَدَ لَهُمَا ، وَأَنَّ الْفَتَى صَاحِبَ الشَّعْرِ الذهَبيِّ ، إِنَّمَا انْقَذهُ الصَّيَّادُ مِنَ الْبَحْرِ ، مُنْذُ نَحْوِ عشرين عامًا ، وَقَدْ كَانَ فِي سَلَّةٍ تَتَرَاقَصُ فَوْقَ سَطْحِ الْمَوْجِ، فَهُوَ لَا شَكٍّ لَقِيطٌ مِنَ اللقَطَاء . فَهِمَ الْمَلِكُ أَنَّ الطِفْلَ الذَّهَبِيُّ الشَّعْرُ الَّذِي أَلْقَاهُ فِي الْبَحْرِ. وَأَرَادَ أَنْ تَبْتَلِعَهُ الأمْواجِ ، قَدْ عَاش ، وَأَنَّهُ ذَلِكَ الْفَتَى الَّذِي يُطِيلُ النَّظَرَ إِلَيْهِ ، فَفَكَّرَ عَلَى الْفَوْرُ ، فِي وَسِيلَةٍ تُهْلِكُه فَطَلَبَ رَقَا كَتَبَ فِيهِ الكلمات الآتية :
إذا تلقيت هذه الرسالة ، فَاقْتُلْ حَامِلَها إِلَيْكَ ...
ثُمَّ أَغلَقَ الرِّسالَة وَخَتَمَهَا ، وَسَلَّمَهَا إِلَى الْفَتَى وَقَال : " خُذ هذه الرسالة ، وَأوصِلهَا إِلَى جَزِيرَةِ الأنوَار ، حَيْثُ تقِيمُ زَوْجَتِي وَابْنَتِي ، فَإِذَا بَلَغْتَهَا فَاذْهَبْ إِلَى الْقَصْرِ ، فَسَوْفَ تستقبل فيه استقبالاً يليقُ بِحامِل مِثْلِ هذه الرسالة ".

فَلَمْ يُخَالِجِ الْفَتَى أَيُّ سُوءٍ ظَنِّ كَانَ ، وَأَخَذَ الرِّسَالَةَ وَمَضَى بِهَا فَوْقَ زَوْرَقٍ خَفِيفَ ، يُصارِعُ الأَمْواجَ وَتُصَارِعُه ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَذْهَبَ بِهِ بَعِيدًا ، فَقَدْ كَانَتِ الأَمْواجُ هائجة عاصفة ، فاضطر أَنْ يَلْتَجئ إِلَى جَزِيرَةٍ مِنَ الْجُزُرِ ، وَأَنْ يطرق باب كون تسكنه ثلاث فتياتٍ جَمِيلات لطاف، اسْتَقْبَلْتَهُ ببالغ الحفاوة والترحيب ، وَسَاعَدْتَهُ عَلَى خَلْعِ مِعْطَفِهِ الْمُبَلَّل ، وَهَيَّأْنَ لَهُ سَرِيرًا مُرِيحًا ، وَأَخَذْنَ يُجاذِبنَهُ أَطراف الحديث . فَلَمْ يَبْخَلُ عَلَيْهِنَّ بِذِكْرِ الْأَمْرِ الَّذِي عَهَدَ فِيهِ الْمَلِكُ إِلَيْهِ فَغَبطت الفتياتُ حَظَهُ السَّعيد ، وتَخَيَّلنَ ما سَوْفَ يُقابَلُ بِهِ في القصر ، مِنْ ضُرُوبِ الْحَفَاوَةِ والتَّكْرِيمِ ، ثُمَّ اسْتَأْذَنَ الْفَتَى مِنْهُنَّ وَارْتَمَى إِلَى سريره، وَكَانَ التَّعَبُ قَدْ نَالَ مِنْهُ مَنَالَه ، فَغرقَ في سبات عميق . أَمَّا الْفَتَيَاتُ الثلاث ، فما اسْتَطَعْنَ أَنْ يَصْرِفْنَ النَّظَرَ عَن الرسالة ، وَقَدْ وَضَعَهَا الْفَتَى فَوْقَ قِطْعَة مِنْ أَثاث الْغُرْفَة . وَكَانَ الْفُضُولُ يُغرِيهِنَّ بِفَتْحِ الرِّسالَةَ ، وَمَعْرِفَةِ مُحتواها . فَكَسَرْنَ الْخَاتَمِ ، وَقَرَأْنَ حُكْمَ الْمَلِكِ عَلَى ذَلِكَ الْفَتَى الْجَمِيلِ النَّاعِسِ ، فَأَخَذَتْهُنَّ الشَّفَقَةُ بِهِ ، وَأَحْرَقْنَ الرسالة ، وَكَتَبْنَ رسالة أُخْرَى شَبِيهة المظهر بِالْأُولى، وَطَلَبْنَ فِيهَا مِنَ الْمَلِكَة أَنْ تَزُفَ ابْنَتَهَا إِلَى حَامِل تِلْكَ الرسالة وَفِي الصَّبَاحِ ، وَدَعَ الْفَتَى مُضيفاتِهِ الْحِسَانِ ، وَذَهَبَ يَمْخُرُ عُبَابَ الماء ، في بحر رائق هادئ ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى جَزِيرَةِ الأَنوار احْتَفَى الْقَوْمُ بِهِ اخْتِفاءُ كَرِيمًا، بَعْدَ أَنْ عَلِمُوا أَنَّهُ رَسُولُ الْمَلِكِ الَّذِي انْقَطَعَتْ أَخْبَارُهُ مُنْذُ وَقْتٍ طويل ، وَأَوْصَلُوهُ إِلَى الْقَصْرِ فِي مَوْكِبٍ عَظِيمٍ، حَتَّى إِذَا مَثَلَ بَيْنَ يَدَى الْمَلِكَة ، سَلَّمَها الرسالة المَختُومَة ، فَقَرَأَتُهَا مَسْرُورَة، وَأَفْضَتْ بِمُحْتَواها إلى أَهْلِ الْبَلاط ، وَأَمَرَتْهُمْ بِأَنْ يُعِدُّوا مُعَدَّاتِ عُرْسِ الأَميرَة.

وَكانَتِ الْأَمِيرَةُ حُلْوَةَ الخِلال ، لَطِيفَةَ الْمَعْشَر ، ذات جمال رائع ، فَوَقَعَتْ مِنْ قَلْبِ الْفَتَى أَجْمَلَ مَوْقِع ، كَمَا أَسَرَهَا هُوَ بِجَمِيلِ مَظَهَرَه، وَكَرَمِ خُلُقِهِ، وَفِي مَسَاء ذَلِكَ الْيَوْمِ ، عُقِدَتْ خِطْبَةُ الْأَمِيرَةِ إِلَى الْفَتَى . دُونَ انْتِظارِ عَوْدَةِ الْمَلِكِ ، وَكَانَ الْخَطِيبَانِ عَلَى أَوْفَى قَدْرٍ مِنَ الغبطة والسعادة .

وَلَكِنَّ هَنَاءَةَ الْخَطِيبَيْنِ لَمْ تَدُمْ طَوِيلاً ، فَقَدْ رَجَعَ الْمَلِكُ فَجأَةً إِلى قَصْرِهِ ، بَعْدَ أَنْ تَفَقَدَ شُؤُونَ جُزُرِه ، فَمَا كَانَ أَشَدَّ دَهْشَتَهُ وَغَضَبَه ، لَمَّا رَأَى إِلى جَانِبِ ابْنَتِهِ الْجَمِيلَة ، فتى كَانَ الْمَلِكُ قَدْ سَعَى إِلَى هَلَاكِهِ مُنْذُ عِشْرِينَ عَامًا وَاسْتَدْعَى الْمَلِكُ الْفَتَى وَهُوَ يَحتَدِمُ غَيْظًا ، وَوَجَّهَ إِلَيْهِ سَيْلًا مِنَ الْأَسْئِلَةِ فِي غَضَبٍ وَقَسْوَةِ ، وَطَلَبَ إِلَيْهِ أَنْ يُجِيبَهُ عَنْها بِلا كَذِبِ وَلا رياء، وَاتهمَهُ أَنَّهُ زَوَّرَ الرِّسَالَةَ الَّتِي كَتَبَهَا بِخطِ يَدِهِ وَسَلَّمَهُ إِيَّاها ، وَأَنَّهُ اسْتَبْدَلَ بِها غَيْرَها . فَلَمْ يَعْرِفِ الْفَتَى بِماذا يُجِيبُه ، وَعِنْدَمَا أَرَادَتِ الْأَمِيرَةُ أَنْ تَشْفَعَ لِخَطِيبِها لَدَى أَبِيهَا الْمَلِكُ ، أَمَرَ الْمَلِكُ أَلَّا يَظْهَرَ الْفَتَى تَانِيَة في القصر ، إلا إذا ظفرَ بِشَعَرَاتٍ ثَلَاثَ مِنْ ذَهَبٍ، يَقْتَلِعُهَا مِنْ رَأْسِ عِمْلاقٍ يَنْتَمِي إِلَى الأَغْوال ، كَانَ يُقِيمُ فِي كَهْفِ مِنْ كُهُوفِ جَزِيرَةِ الأَنوار ، وَيَمْلَؤُها ذُعْرًا وَرُعْبًا ، وَكَانَتْ تِلْكَ حِيلَةً عَمَدَ إِلَيْهَا الْمَلِكَ ، فِي سَبِيلِ أَنْ يَنْجُوَ مِنْ عَدُوِّهِ الشابِ ، فَمَا مِنْ أَحَدٍ حَاوَلَ الْوُصُولَ إِلَى الْعِمْلاقِ الْغُولَ ، وَعَادَ حَيَّا يرزق . وَفِي الْحَالِ ، سَارَ الْفَتَى إِلَى حَيْثُ يُقِيمُ العملاق الْغُول ، وَدَخَلَ فِي أَثْناء الطريق ، مغارَةً كان على بابها شَيْخٌ هَرِمٌ سَأَلَ الْفَتَى قَائِلاً : لماذا انقَطَعَ السَّمَكُ الْفِضَى ، مِنْ وَضْعِ بَيْضِهِ الْمُلَألِئ ، في ماء المغارة ، فَقَدْ حَرَمَنِي بِذلِكَ أَنْ أَرَى النُّور ، وَقَضَى عَلَي أَنْ أَعِيشَ فِي عَتَمَةٍ قائمة ؟! فَاسْتَغْرَبَ الْفَتَى مِنْ سؤالٍ كَهذا ، وَوَعَدَ الشَّيْخَ بِأَنْ يُفَكرَ فِي الْمَسْأَلَة ، وَبِأَنْ يُجِيبَهُ عَنْ سُؤَالِهِ عِنْدَ عَوْدَتِهِ ، وَتَابَعَ سَيْرَهُ في الظلمة الحالكة .

وَمَا زَالَ الْفَتَى يَحُث الْخَطى ، حَتَّى اسْتَوْقَفَهُ شَيْخ آخر . وَأَنْهَى إِلَيْهِ بِأَمْرٍ يُقْلِقُهُ وَيُحْزِنُهُ ، ذَلِكَ أَنَّهُ حِينَمَا يَعْصِرُ عُشْبَ الْبَحْر ، لا يُسْتَخْرَجُ مِنْهُ الْعَصِيرِ، فَوَعَدَهُ الْفَتَى بِأَنْ يُجِيبَهُ عِنْدَ عَوْدَتِهِ ، عَمَّا يُقْلِقُه وَيُحْزِنُهُ ، ثُمَّ أَكْمَلَ الْفَتَى مَسِيرَتَهُ . إِلَى أَنْ وَصَلَ إِلَى نَهْرٍ صَغِيرٍ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَعْبُرَهُ ، فَهُمَّ أَنْ يَقْفِز إِلَى الضَّفَّةِ الْأُخْرَى ، وَلَكِنَّهُ أَدْرَكَ أَنَّهُ لَوْ فَعَل ، لَغرِقَ لَا مَحالَهُ ، فَآثَرَ أَنْ يَنْتَظِرَ بَعْضَ لَحَظَاتِ ، فَرَأَى فلَاحًا يَقُودُ زَوْرَقًا مِنْ ضَفَةٍ إِلَى أُخْرَى، فَرَضِيَ الْملَاحُ أَنْ يَعْبُرَ بهِ النَّهْرُ ، وَلَكِنَّهُ أَفْضَى إِلَيْهِ بِسَأَمِهِ مِنْ مِهْنَتِهِ هذِهِ ، وَسَأَلَهُ لِمَاذَا لَا يَتَنَاوَبُ الْعَمَلَ مَعَهُ ملاح آخر ، فَوَعَدَهُ صَاحِبنا بِالْجَوابِ عِنْدَ عَوْدَتِهِ ، ثُمَّ مَشَى مَشْيَهُ الْحَثِيث ، حَتَّى دَخَلَ سردابا مظلماً ، تَنبَعثُ مِنْهُ حَرارَةٌ مُتَّقِدَة ، فَاعْتَرَضَهُ باب مِنَ الْأَبْوَابِ ، فَطَرَقَهُ فَفَتَحَتْ لَهُ الْبَابَ امْرَأَةٌ عَجُوز ، فَحَدَّقَتْ إلى الفتى ، وَأَعْجَبَهَا جَمَالُهُ ، فَقَالَتْ لَه : "ماذا جِئْتَ تَعْمَلُ هُنا أَيُّهَا الْمِسْكِين ؟ أَلَا تدْرِي أَنَّكَ فِي بَيْتِ عِمْلاقٍ يَنتَمِي إِلَى الْأَغْوَالَ ، وَلَا يُحِبُّ الصبيان، وَلَا الشبَابَ مِنْ بَنِي الإنسان" فَأَثَرَ فِي قَلْبِ الْفَتَى مَظهَرُ الْمَرْأَةِ الْعجُوزِ الْفَيَّاضِ بِالْحَنَانِ، فَأَخْبَرَهَا بِالْهَدَفِ الَّذِي جَاءَ مِنْ أَجْلِهِ ، وَبِقِصَّةِ الرِّجَالِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ لَقِيَهُمْ فِي طَرِيقِه . 
وَبَيْنَمَا كَانَ يُحَدِّثُ الْمَرْأَةَ الْعَجُوز ، إِذْ سَمِعَ وَقعَ أَقْدام آتِيَةٍ مِنْ بَعِيد ، فَعَرَفَ مِنْهَا أَنَّهَا خُطُواتُ الْعِمْلاقِ الْغُول . فَحَوَّلَتْهُ الْمَرْأَةُ عَلَى الْفَوْرِ، بِقُوَّةِ سِحْرِها ، إِلَى نَمْلَةٍ وارتها في طياتِ ثوبها ، وعادَتْ إِلَى مِغْزَلِها تُتِم عَمَلَهَا بِه . وَدَخَلَ الْعِمْلَاقُ الْغولُ الْغُرْفَةَ ، وَأَخَذَ يَطُوفُ بِزَوايَاهَا ، وَيَشمُ الرَّائِحَةَ فِي كُلِّ مِنْهَا وَهُوَ يَقُول : " أَشُم رَائِحَةَ لَحْمٍ إِنسان".
فَقَالَتْ لَهُ الْعَجُوز ، وَكَانَت خَادِمَتَه : 
"كلا يا سيدي ، إنها رائحة الشواء الذي أعددته لطعامك، وقد كاد ينضج".

فكان العملاق كَأَنَّهُ اقْتَنَعَ بِكَلامِ الْخَادِمَةِ ، وَمَضَى يَجْلِسُ إلى المائدة ، فَأَكَلَ بَقَرَةً مَشْوِيَّةٌ بِرُمَّتها ، ثُمَّ نَامَ في مقعده . وَأَقْبَلَتِ الْمَرْأَةُ عَلَى النَّمْلَةِ تُحَدِّثُهَا بِصَوْتٍ خَافِتٍ كَأَنَّهُ الْهَمْسُ ، وَحَاوَلَتا مَعَا الْعثُورَ عَلَى وَسِيلَةَ ، تَقْتَلِعَانِ بِها ثَلَاثَ شَعَرَاتٍ مِنْ ذَهَبٍ ، كَانَتْ فِي رَأْسِ الْعِمْلاقِ الْغُول فَاقْتَرَبَتِ الْمَرْأَةُ مِنَ الْعِملاق ، وَصَرَخَتْ فِي أُذُنَيْه . وَيْلى : لَقَدْ لَمَحْتُ قِشْرًا يَمْلَأُ طَيَّاتِ شَعْرِكَ ، فَاسْمَحْ لِي أَنْ أُجْرِيَ الْمِشْطَ فِي رَأْسِكَ  لِأُنظِفَهُ مِمَّا قَدْ يكون فيه .

فَزَمْجَرَ العملاق قَلِيلًا، وَفَتَحَ جَفْنَيْهِ وَأَغْلَقَهُما ، وَرَضِيَ بِمَا طَلَبَتْ خَادِمَتُهُ ، وَأَسْنَدَ رَأْسَهُ إِلَى رُكْبَتَيْهَا ، وَعَادَ إِلَى سُبَاتِهِ العميق .
أَعْمَلَتِ الْخادِمَةُ الْمِشْطَ فِي رَأْسِ الْعِملاق ، واقْتَلَعَتْ مِنْهُ شَعْرَةً مِنْ ذَهَبٍ خَبَّأَتْهَا فِي جَيْبِهَا ، فَاسْتَيْقَظَ الْعِمْلَاقُ مِنْ نَوْمِهِ مُتَأَلَّما وقال :
أَمَجْنُونَةٌ أنتِ يا هذه ؟ لماذا تَشدِّينَ شَعرَ رَأْسِي .
فقالت الخادمة :
"اعْذُرْنِي يَا سَيِّدِي ، فَقَدْ كُنتُ أَحْلُمُ حُلْمًا مُزْعِجا رَأَيْتُ فِيهِ مَغارَةَ جَدِي الْكَبِيرِ يُعوزها النُّور"
فقال العملاق :
"لَيْسَ الْأَمْرُ بِذِى بال .. هُناكَ سَمَكَةٌ سَوْداء، تَتسَرَّبُ إلى ثنايا الْحِجَارَةِ، وَتَبْتَلِعُ الْبَيْضَ الْمُلَألِيء ، فَمَا عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يقتل تلك السمكة ، فَتَعُودَ الْمَغارَةُ فَيَّاضَة بالضياء ." قَالَ العملاق هذا الكلام، وَرَجَعَ يَغط فِي نَوْمِهِ ، فَانْتَظَرَتِ الْمَرْأَةُ الْعَجُوزُ قَلِيلا ، ثُمَّ اقْتَلَعَتْ شَعْرَةً ثَانِيَةً مِنْ رَأْسِ العملاق ، فَصَحَا غَضَبَانَ يَخُورُ خُوارَ الثَّوْرِ وَقَالَ : "الوَيْلُ لَكَ أَيَّتُهَا اللعينة : لماذا توقظينني من رقادى بَيْنَ حِينٍ وَحِين ؟ احرصي عَلَى راحتِي وَإِلَّا مَزَّقْتُكَ تَمْزِيقًا ".

فَقَالَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ العَجُوزُ وَهِيَ تَرْتَجِفُ خَوْفًا : "لقد حلمتُ مَرَّةً ثانية يا سيدي ، وساءلتُ نفسي لماذا جف عشب البحر البنفسجى . وَلَمْ يَعُدْ يُسْتَخْرَجُ مِنْهُ ذَلِكَ العصيرُ اللَّذِيدَ ، فَلَمْ أَعْرِفْ جَوابًا عَنْ هذا السؤال".
فقال لها العملاق الغُول ، وَهُوَ شَيبه نائم : "مَنْ قَالَ لَكَ إِنَّ ذَلِكَ العشب لَا يُؤْتِي الْعَصِير اللَّذِيدَ .. إِنَّ بُرْغُوثِ الْبَحْرِ ، وَهُوَ أَسْرَعُ مِنَ الشَّيْخ العجوز يمتَص السَّائِل قبله ، فَما عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَقْتُلَ الْبُرْغُوث ، فَإِنْ فعل ، فَسَوْفَ يَجِدُ المغارة مملوءة بالعصير .. وَعادَ الْعِمْلَاقُ الْغولُ إِلَى النَّوْمِ ، وَتَوَعَدَ الْخَادِمَةَ بِصَارِمِ الْعِقَابِ ، وَبِضَرَبَاتِ أَلِيمَةٍ مِنْ عَصاه ، إِذَا هِيَ أَيْقظتهُ مَرَّةً أُخْرَى ، فَالنَّوْمُ سُلْطَانَ ، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَنَامَ مِلء جَفْنَيْهِ ، بَعْدَ الْبَقَرَةِ الْمَشْوِيَّةِ التي التهمها .

فَمَا كَادَ الْعِمْلَاقُ الْغولُ يَسْتَسْلِمُ إِلَى الرُّقَادِ ، ويهنأ بلذيذ نَوْمِهِ ، حَتَّى عَمَدَتِ الْمَرْأَةُ الْخَبِيثَةُ إِلَى رَأْسِ العملاق .
وانْتَزَعَتْ مِنْهُ شَعْرَةً ذَهَبيَّة للمرة الثالثة . فَاسْتَيْقَظَ الْعِمْلَاقُ وَهُوَ يَسْتَشِيطُ غَيْظًا ، وَيَقْذِفُ الشَّتَائِمَ مِنْ فَمِهِ ، وَتَنَاوَلَ عَصَاهُ الغَلِيظَةَ ، وَأَهْوَى بِها عَلى خَادِمته . مثنى وثلاث ورباع، فَصاحَتْ هَذِهِ مِنَ الْأَلم ، وَأَخَذَتْ تُجْهِش بالبكاء وَهِيَ تَقُولُ لِسَيدِها :
عفوك يا سيدى ، فَمَا قصَدْتُ  أَنْ أُرْعِجَكَ فِي مَنَامِكَ ، فَرَاحَتُكَ عِنْدِي أَغْلَى مِنْ كُلِّ شَيْءٍ فِي هَذِهِ الدُّنْيا . وَلَكِنِي حَلَمْتُ أَنَّ الْمَلَاحَ الَّذِي يَعْمَلُ عَلَى زَوْرَقِهِ بَيْنَ ضفتي النَّهْرِ الصَّغير ، قَدْ سَئمَ مِنَ الْعَمَلِ وَحْدَه ، وَأَنَّهُ يَطْلُبُ أَحَدًا يُعاوِنُهُ وَيَتَنَاوَبُ مَعَه ..

فقال العملاق الْغُول ، وَهُوَ مُتَذَمِّرُ مُتَأَففَ : " ما أَسْهَل هذا الأمر ، فَلَيْسَ لِلْمَلَاحِ أَنْ يَسْأَمَ وَلَا أَنْ يَبْأَسِ ، فَمَا عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَضَعَ الْمِجْدَافَ بَيْنَ يَدَى أَوَّلِ مُسَافِرٍ يُقْبِلُ عَلَيْهِ ، وَيَقْفِزَ هُوَ إِلَى الضَّفَّةِ ، فَيَرْتاحَ مِمَّا يكابد من عناء ".

لَفَظَ الْعِمْلاقَ الْغُولُ هُذِهِ الكلمات ، واستلقى إلى سَرِيرِهِ ، وَغاص فِي بَحْرِ النَّوْمِ ، لَا يَرِيمُ وَلَا يَتَحَرَّكَ ، وَهُوَ في ملابسه الكاملة ، وكانَ صَوْتُ شَخِيرِهِ ، يَمْلَأُ جَوَ الكهف ، وَيَتَعَدَّاهُ إِلَى الْجِوَاءِ الْمُحِيطَةِ بِهِ . وانقَضَتْ لحظات قصار ، خَرَجَتِ الْمَرْأَةُ الْعَجُوزُ بَعْدَهَا مِنَ الْغُرْفَةَ ، وَأَعادَتْ لِلْفَتَى ، بِقُوَّةِ سِحْرِها ، شَكَلَهُ الإنساني ، وَقَدَمَتْ لَهُ الشَّعَرَاتِ الذَّهَبِيَّةَ الثَّلاث ، وَائِقَةً مِنْ أَنَّهُ ، وَهُوَ مَمْسُوخ إِلَى نَمْلَة ، كان حاضر الَّذِهْنِ ، مُرْهَفَ السَّمْعَ ، قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ ما قاله العملاق الْغُولُ إِحَاطَةً تامَّةَ ، وَفَهِمَ مِنْهُ كُلَّ ما يَتَعَلَّقُ بِالأَسْئِلَةِ الثلاثة الَّتِي طَرَحَها عَلَيْهِ الرِّجَالُ الَّذِينَ لَقِيَهُمْ فِي طَرِيقِهِ إِلَى الْعِملاق الْغُول . وَلَا تَسَلْ عَنِ الْفَرَحِ الَّذِي اسْتَوَلَى عَلَى قَلْبِ الْفَتَى ، عِنْدَمَا تَسَلَّمَ الشَّعَرَاتِ الذَّهَبِيَّة الثلاث ، وَرَأَى فِيهَا عُنُوانَ تَوْفِيقِهِ وَنَجَاحِهِ ، وَلَا تَسَلْ كَذَلِكَ عَمَّا غَمَرَ بِهِ الْمَرْأَةَ الْعَجُوزِ ، مِن عبارات الشُّكْرِ وَالثَّنَاءِ وَعِرْفَانِ الْجَمِيل . وَدعَ الْفَتَى الْمَرْأَةَ الْعَجوز ، وَرَجَعَ مِنْ حَيْثُ أَتَى ، وَغَدَّ فِي السَّيْرِ إِلَى أَنْ بَلَغَ النَّهْرَ الصَّغِير ، فَمَا إِنْ رَآهُ المَلَاحُ مُقبلا نَحْوَهُ ، حَتَّى انْتَظَرَهُ بفارغ الصَّبْرِ ، وَسَأَلَهُ فِي لَهُفَةٍ وَشَوْق : "هَلْ جِئْتَني بالجواب يا سَيِّدِي ؟ هَلْ أَظْفَرُ بِمَنْ يَنُوبُ عَنِّي في العمل ، بَعْدَ الْجَهْدِ الجَهِيدِ الَّذِي أَنا غارق فيه ؟ . فَقَالَ لَهُ صَاحِبُنَا فِي خيْث وَدَهَاء ، وَلَمْ يَشَأْ أَنْ يُجِيبَهُ عَنْ سُؤَالِهِ ، قَبْلَ أَنْ يَضْمَنَ لِنَفْسِهِ الْوُصُولَ إِلَى الضَّفَّةِ الْأُخْرَى : " أنقلي إِلَى الضَّفَّةِ الثَّانِيَةِ أَوَّلاً ، أُجِبْكَ عِنْدَئد عَنْ سؤالك ، فَعِنْدِي لَكَ الْجَوابُ الشَّافي، فَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْمَلاحِ الطَّيِّبِ الْقَلْبِ ، إِلَّا أَنْ أَذعَنَ لِرَأَي مُخاطبه ، وَأَرْكَبَهُ قَاربَه ، وَمَضَى بِهِ إِلَى الضَّفَّة الْأُخْرَى ، فَلَمَّا بَلَغَها صاحبنا الخبيث ، أنهَى بِالجَوابِ إِلَى الملاح ، عَلَى النَّحْوِ الَّذِي سَمِعَهُ مِنَ الْعِمْلاقَ الْغُول . وأطلق ساقيه للريح ، هَرَبًا مِنْ مُحَدِّثِهِ الَّذِي فَغرَ فَاهُ دَهْشَةٌ واستغرابا .

وَمَا زَالَ يَجُدُّ في قراره ، وَيَطْوِي مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ غَابَاتٍ وَحُقُول ، وَجِبَالِ وَسُهُولَ ، حَتَّى بَلَغَ الْمَغَارَةَ التِي أَعْرَبَ لَهُ حَارِسُها عَنْ نَقص العصير فيها ، فَأَخَذَ يَرْقُبُ المكان . وَيَتَرَقَبُ مُرُورَ يُرْغُوثِ الْبَحْرِ ، حَتَّى لَقِيَهُ وَصَادَهُ وَقَتَلَهُ ، ثُمَّ قَالَ لِلْحَارِسِ الشَّيْخ : يُمكنك بعد الآن ، أن تَسْتَخْرِجَ العَصِيرَ مِنْ عُشْبِ الْبَحْرِ الْبَنَفْسَجِي، فَقَدْ كَانَ برْغُوث الْبَحْرِ يَمْتَصُّهُ ، وَها أَنَا ذَا قَدْ قَتَلْتُهُ مِنْ أَجْلِك فَشَكَرَهُ الشَّيْخُ عَلَى صَنِيعِهِ شُكْرًا جَزِيلًا ، وَقَدَّمَ لَهُ عَلَى سَبِيلِ الْهَدِيَّةِ والوفاء بالجميل، بَغْلًا مُحَمَّلًا بِالذَّهَبِ، فَأَخَذَهُ وَأَكْمَلَ سَيْرَهُ إِلَى الْمَغَارَةِ الْأُولَى ، فَلَقِيَ حارِسهَا ، وَحَيَّاهُ تحية جميلة ، وقال له:
"لَقَدْ جِئْتُكَ بالجواب يا سَيِّدِى، فَلَنْ تَشْكُو بَعْدَ الْيَوْمِ من ظلمة المغارة"  فقال له الحارس متلهفا:
"أسرع في جوابك يا فتى، فأني في أشد الشوق إليه ، فقد كفى بي ظلمة و عتمة حالكة".

فقال له الفتى و هو يبتسم : "إن هناك سمكة سوداء، هي التي تبتلع البيض الملألئ و ترميك في الظلام ".
وَأَتْبَعَ كَلامَهُ بِأَنْ شَرَحَ لِلرَّجُلِ الْوَسِيلَةَ الَّتِي يَسْتَطِيعُ بها ، أنْ يَقْضِي عَلَى السَّمَكَة السوداء ، وَيَسْتَعِيدَ الضياء في الْمَغَارَة .

فَشَكَرَهُ الْحَارِسُ الشَّيْخُ ذُو اللَّحْيَةِ الْبَيْضاء شُكْرًا وَافِرًا ،وقال له :
إِنَّكَ لَصَاحِبُ فَضْلٍ عَلَي لَنْ أَنْسَاهُ مَدَى الْحَيَاةِ . فَهَلْ تَأْذَنُ لِي فِي أَنْ أُهْدِي لَكَ عَلَى سَبِيلِ التَّدْكَارِ ، هَدِيَّةً أَمْنَحُكَ إِيَّاهَا مِنْ صَمِيمِ الْفُؤَادِ ؟
قال هذا ، وغابَ قَلِيلًا ، وَعادَ وَهُوَ يَقُودُ بَغْلًا مُحَمَّلًا أَيْضًا بِالذَّهَبِ ، وَوَضَعَ مِقْوَدَهُ فِي يَدِ الْفَتَى . فَأَخَذَهُ مِنْهُ الْفَتَى ، وَقَلْبُهُ يَخْفُقُ خَفَقانَا شَدِيدًا مِنَ الْفَرَح والسُّرُور ، وَوَدَعَ الشَّيْخَ وَقَفَلَ رَاجِعا فِي طَرِيقِ الْقَصْر ، ينزل الأودية ، وَيُصَعِدُ فِي الْجِبَالِ ، وَيَجْتَازُ الْغَابَاتِ ، وَيُطْفِئُ ظَمَأهُ من مياه الينابيع التي يمر بها ، وَيُشْبِعُ جُوعَهُ مِنْ ثمار . الأشجار التي كانت تعترض طَرِيقَه ، إِلَى أَنْ أَدَّتْ بِهِ خَاتِمَةٌ الْمَطَافِ إِلى قصر الملك . فَلَمَّا رَأَى الْمَلِكُ أَنَّ الْفَتَى مَائِلِ أَمَامَهُ ، وَأَنَّ الْمَخَاطرَ الَّتِي عَرَّضَهُ لَهَا ، لَمْ تَنَلْ مِنْهُ ، وَلَا أَفَقَدَتْهُ الْحَيَاةِ، ثارَ ثوْرَةً عَارِمَة ، وَكَادَ يُجَنُّ جُنُونُه . غَيْرَ أَنَّ الْفَتَى عَادَ بِبَغْلَيْنِ مُحَمَّلَيْنِ بِالذَّهَبِ ، فَضْلاً عَنِ الشَّعَرَاتِ الثَّلَاثِ ، وَتِلْكَ ثرْوَةٌ لا يُسْتَهانُ بِهَا ، وَتَزِيدُ عَلَى ثرْوَةِ الْمَلِكِ ، وَهذَا مَا جَعَلَ الْمَلِكَ يَرْضَى بِهِ زَوْجًا لابْنَتِهِ. وَكَانَتْ مُعَدَّاتُ الْعُرْسِ قَدْ تَمَّتْ مُنْذُ حِينَ ، فَزادَ الْقَوْمُ عَلَيْهَا ، وَمَا إِنْ حُدِدَ يَوْمُ الزفاف ، وَتَمَّتْ فِيهِ الشَّعَائِرُ الدِّينِيَّة . حَتَّى اسْتَسْلَمَ الْقَوْمُ إِلَى مِهْرَجَانٍ عَظِيمٍ اسْتَمَرَ سَبْعَةَ أَيَّامٍ بلياليها ، وَكَثُرَتْ فِيهِ الْوَلَائِمُ وَالْمَآدِبُ الحَافِلَةُ بِأَلَّذِ ألوان الطعام، فَمِنْ لَحْمٍ مُنَوَّعَ الْأَصْنَافِ ، بَيْنَ مَطْبُوخ وَمَشْوِى، إِلَى حَلْوَى مُتَعَدِّدَةِ الشَّكْلِ وَالطَّعْمِ يَسِيلُ لِرُؤْيَتِهَا اللُّعَابِ ، إِلَى ثِمَارٍ يَانعَةٍ شَهِيَّة ، هِيَ خَيْرُ مَا أَنْتَجَتْهُ الْبَساتِينُ الْمَلَكِيَّة. 
وَكَانَ الْعَرُوسَانِ فِي سَعَادَةٍ مَا بَعْدَها سَعادَة ، وَكَانَا قِبْلَةَ الْأَنْظَارِ ، لَا يَشْبَعُ الْحَاضِرُونَ مِنَ النَّظَرِ إِلَيْهِمَا ، مَأْخُوذِينَ بشبابهما الناضر ، وَجَمالِهما الْخَلَّابِ ، وَابْتِسَامَاتِهِما السَّاحِرَة التي كانت تُطلعُ فِي الْقُلُوبِ فَجْرًا مُشْرِقًا وَضَاحًا مِنَ السَّعْدِ والهناءة .

وانتهت الأفراح والليالي الملاح ، وَبَدَأَتِ الْغَيْرَةُ تَنْخَرُ قلْبَ الْمَلِكِ وَتُوغِرُ صَدْرَهُ ، فَقَدْ كَانَ يَعِزُّ عَلَيْهِ أَنْ يَرَى صهْرَهُ أَغْنَى مِنْهُ ، يَمْتَلِكُ أَحْمَالَ الذَّهَب، في حين لا يمتلك هُوَ مِنْهُ ، إِلَّا النَّذرَ الْيسِيرِ ، فَعَزَمَ أَنْ يَرْحَلَ هُوَ أَيْضًا إِلَى كَهْفِ الْعِمْلاقِ ، وَيَمُرَّ بِمَنْ مَرَّ بِهِمْ صِهْرُهُ ، لَعَلَّهُ يَعُودُ مِنْهُمْ بيغالٍ تَنُوء ظُهُورُها بِالذَّهَبِ والجَواهِرِ ، غَيْرَ أَنَّهُ مَا كادَ يَصِلُ إِلَى الْمَلَاحِ الَّذِي يَنْقُلُ الْمُسَافِرِينَ بَيْنَ ضَفَتى النَّهْرُ . حَتَّى وَضَعَ الْمَلَاحُ فِي يَدَيْهِ مِجذاف القارب ، وَقَفَز إِلَى الشاطئ ، وَلاذَ بِأَذْيالِ الفِرار وَبَقِيَ الْمَلِكُ وَحْدَهُ فِي الزَّوْرَقِ ، يُدِيرُ الْمِجذَافَ فِي عُبَابِ الْمَاءِ ، وَيَخُوضُ بِالزَّوْرَقِ عَلَى غَيْرِ هُدًى ، لَا يَتَوَخى فِي خَوْضِهِ غايَةً مَنْشُودَة ، ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يَجْهَلُ مَقَرَّ الْعِمْلاقِ الغول ، وَلا يَعْرِفُهُ إِلَّا عَلَى وَجْهِ التَّقْرِيبِ ، فَذَهَب فِي النَّهْر إلى أقاصي البقاع ، وَلَمْ يَعُدْ قَطُّ إِلَى قصره . وَلَا عَجَبَ فِي ذَلِكَ ، فَمَنْ يَذْهَبْ إِلَى لِقَاء العملاق الغُول لا يَرْجِعْ مِنْ عِنْدِهِ سالماً. 
وَعَبَثا انْتَظَرَ الْمَلِكُ أَنْ يَأْتِيَهُ رَجُلٌ يَأْخُذُ الْمِجْدَافَ مِنْ يَدِهِ ، وَيُمَكنُهُ مِنْ أَنْ يَعُودَ إِلَى قَصْرِهِ ، وَلَوْ بِغَيْرِ تِلْكَ الكنوز التي كانَ يَطْمَعُ فيها ، فَطَالَ انْتِظَارُهُ ، وَطَالَ غِيَابُه .